في سنة 1917م رأت بريطانيا وفرنسا آمالهما في النصر تتحطم، وأجلت النمسا ـ المجر الإيطاليين من أراضيها في معركة كابوريتو في الخريف، وانعدم أمل أكثر الحلفاء بعد قيام ثورة في روسيا.
الثورة الروسية. عانى الشعب الروسي كثيرًا خلال الحرب العالية الأولى، وخلال سنة 1917م لم يعد كثير منهم قادرًا على تحمل الخسائر العديدة، والنقص الخطير في الطعام، وأخذوا ينحون باللائمة على القيصر نيقولا الثاني ومستشاريه فيما يتعلق بمشكلات البلاد. وفي أوائل 1917م أطاحت ثورة في بتروغراد (حاليًا بيترسبيرج) بالعرش واستمرت الحكومة الجديدة في الحرب.
ولكي تضعف ألمانيا من مجهود روسيا الحربي فقد ساعدت ف. ل. لينين، وهو ثائر روسي كان يعيش آنذاك في سويسرا، في العودة إلى بلده في أبريل 1917م. وبعد سبعة أشهر قاد لينين ثورة تمكن بها من السيطرة على حكم روسيا، وطالب في الحال بمعاهدة سلام مع ألمانيا، وانتهت الحرب على الجبهة الشرقية.
وأمْلت ألمانيا شروط صلح قاسية على روسيا في معاهدة صلح وقِّعت في برست ـ ليتوفسك في 3 مارس 1918م، وأجبرت معاهدة برست ـ ليتوفسك روسيا على أن تتنازل عن مساحات كبيرة من الأرض تشمل فنلندا وبولندا وأوكرانيا وبسارابيا ودول البلطيق: أستونيا وليفونيا (لاتفيا حاليا) ولتوانيا، ومكن انتهاء القتال على الجبهة الشرقية القوات الألمانية من أن تنتقل إلى الجبهة الغربية. وبدا أن العقبة الوحيدة أمام إحراز الألمان للنصر هو دخول الولايات المتحدة الحرب.
الرماة الأمريكيون يزحفون خلال منطقة مزقتها الحرب في شمال شرقي فرنسا أثناء خريف عام 1918م، حيث جرى الهجوم الأخير خلال الحرب العالمية الأولى. وتقع المنطقة بين نهر الميوز وغابة أرجون. وقد اشتركت في هذا القتال قوات أمريكية كثيرة وعرف هذا الهجوم باسم هجوم ميوز ـ أرجون.
الولايات المتحدة الأمريكية تدخل الحرب. أعلن الرئيس ولسون رئيس الولايات المتحدة حياد الولايات المتحدة في بداية الحرب؛ فقد عارض معظم الأمريكيين تورط الولايات المتحدة في حرب أوروبية، لكن غرق سفينة لوسيتانيا وبعض أعمال ألمانيا الأخرى ضد المدنيين أحدث تعاطفا مع الحلفاء.
في 2 أبريل دعا ولسون إلى الحرب قائلاً: "إن العالم لابد أن يصل آمنا إلى الديمقراطية"، وأعلن الكونجرس الحرب على ألمانيا في 6 أبريل. وتوقع قليل من الناس أن تفعل الولايات المتحدة الكثير من أجل إنهاء الحرب.
المعارك الأخيرة. أنعش انتهاء الحرب في الجبهة الشرقية أمل الألمان في النصر، وفي أوائل 1918م كانت القوات الألمانية تتفوق عل الحلفاء في الجبهة الغربية، وشنت ألمانيا ثلاث هجمات في الربيع. كان لودندورف قد خطط بأن يقوم بضربة ساحقة على الحلفاء قبل أن تصل القوات الأمريكية إلى الجبهة واعتمد على عنصر السرعة والمفاجأة.
ضربت ألمانيا ضربتها قرب سان كنتان، وهي مدينة في وادي نهر السوم، في 21 مارس 1918م وانسحبت القوات البريطانية نحو 25 كم. وفي آخر مارس بدأ الألمان ضرب باريس، وكانت مدفعيتهم الضخمة تقذف بالقذائف إلى مدى 120 كم. وبعد خسارتهم عند سان كنتان اجتمع قادة الحلفاء لوضع خطة دفاعية جديدة. وفي أبريل عينوا الجنرال فرديناند فوش من فرنسا قائداً أعلى للقوات المتحالفة في الجبهة، وبدأ هجوم ألماني ثان في 9 أبريل على طول نهر لي في بلجيكا، وناضلت القوات البريطانية ببسالة، وأوقف لودندورف الهجوم في 30 أبريل. وعانى الحلفاء من خسائر كبيرة في كلا الهجومين، لكن خسائر الألمان كانت فادحة هي الأخرى.
هجمت ألمانيا للمرة الثالثة في 27 مايو قرب نهر آين. وفي 30 مايو وصلت القوات الألمانية إلى نهر المارن، وساعدت القوات الأمريكية فرنسا لوقف التقدم الألماني عند مدينة شاتو تييري، وهي على بعد أقل من 80 كم شمال شرق باريس. وخلال يونيو طردت الولايات المتحدة الألمان من غابة بيلو قرب المارن. وعبرت القوات الألمانية المارن في 15 يوليو، وأمر فوش بشن هجوم مضاد قرب مدينة سواسون في 18 يوليو.
واستمرت المعركة الثانية في 15 يوليو إلى 6 أغسطس 1918م. ومثلت نقطة تحول في الحرب العالمية الأولى، وبعدها تقدم الحلفاء بثبات. وفي 8 أغسطس هاجمت بريطانيا وفرنسا الألمان قرب آميان.
بدأ الهجوم الأخير في الحرب العالمية الأولى في 26 سبتمبر 1918م. واشتركت قوات أمريكية مكونة من نحو 900 ألف في قتال شرس بين غابة أرجون ونهر الميوز. وتحقق لودندورف من أن ألمانيا لن تستطيع أن تتغلب على قوات الحلفاء الأكثر منها قوة.
نهاية القتال. كسب الحلفاء الانتصارات على طول الجبهات في خريف 1918م، واستسلمت بلغاريا في 29 سبتمبر، وانتصرت القوات البريطانية تحت قيادة الجنرال إدموند أللنبي على الجيش العثماني في فلسطين وسوريا. وفي 30 أكتوبر وقَّعت الإمبراطورية العثمانية هدنة، وبدأت المعركة الأخيرة بين إيطاليا والنمسا ـ المجر في آخر أكتوبر في إيطاليا. وهزمت إيطاليا النمسا ـ المجر بمساعدة من فرنسا وبريطانيا، ووقعت النمسا ـ المجر هدنة في 3 نوفمبر.
كانت ألمانيا تترنَّح على حافة الانهيار كلما تقدمت الحرب خلال أكتوبر، وكان حصار بريطانيا البحري قد أجاع الشعب الألماني ونشر تذمرًا أدى إلى تظاهرات تطالب بالصلح، وتخلى القيصر فيلهلم عن عرشه في 9 نوفمبر وطار إلى هولندا، وتقابل وفد الحلفاء بقيادة فوش مع ممثلين ألمان في عربة سكة حديدية في غابة كومبيين في شمال فرنسا. وفي صباح 11 نوفمبر 1918م قبل الألمان هدنة نهائية بشروط الحلفاء، ووافقت ألمانيا أن تجلو عن الأراضي التي احتلتها خلال الحرب، وأن تسلم أعدادا كبيرة من جيشها وسفنها، وأدوات حربية أخرى، وأن تسمح لقوى الحلفاء أن تحتل أرض ألمانيا على طول نهر الراين. وأمر فوش بوقف القتال على الجبهة الغربية الساعة 11 قبل الظهر، وانتهت الحرب العالمية الأولى.
نتائج الحرب
الدمار والإصابات. سببت الحرب العالمية الأولى دمارًا كبيرًا إذ مات نحو 10ملايين جندي نتيجة للحرب، وهو رقم يزيد عن عدد الذين ماتوا خلال المائة سنة السابقة للحرب، وجرح نحو 21 مليون رجل. أما الخسائر المالية فقد نجمت عن القوى التدميرية للأسلحة الجديدة خاصة المدافع الآلية. وساهم القادة العسكريون في هذه المذابح لفشلهم في التَّكيّف مع الظروف المتغيرة للحرب.
خسرت كل من ألمانيا وروسيا نحو مليون وثلاثة أرباع المليون قتيل خلال الحرب العالمية الأولى، وهو أكثر مما عاناه أي قطر آخر، وكانت نسبة الموتى في فرنسا أعلى بالمقارنة بعدد جنودها الكلي. فلقد خسرت نحو مليون وثلث المليون جندي؛ أي 16% من كل قواتها العاملة. ولا أحد يعرف كم عدد المدنيين الذين ماتوا من المرض والجوع والأسباب الأخرى المتعلقة بالحرب، ويعتقد بعض المؤرخين أن عدد المدنيين الذين ماتوا كان يساوي عدد الموتى من الجنود.
أما الخسائر المادية في الحرب العالمية الأولى فكانت أكثر في فرنسا وبلجيكا، فقد خربت الجيوش المزارع والقرى بمرورها فيها وحفر الخنادق للقتال، وخربت الحرب المصانع والجسور وقضبان السكك الحديدية. أما جرارات المدفعية والمواد الكيميائية فقد خربت الأرض على طول الجبهة الغربية.
النتائج الاقتصادية. كبدت الحرب العالمية الأولى الأمم المتقاتلة نحو 337 بليون دولار أمريكي. وفي سنة 1918م كانت الحرب تكلف 10 ملايين دولار كل ساعة. ورفعت الأمم ضرائب الدخل والضرائب الأخرى من أجل تمويل الحرب. ولكن معظم الأموال جاءت من القروض التي أوجدت ديونا ضخمة، واستدانت الحكومات من المواطنين ببيع سندات حربية، واستدان الحلفاء كثيراً من الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، طبعت معظم الحكومات أوراقاً مالية إضافية لمواجهة حاجاتها، ولكن الزيادة في النقود سببت تضخما ماليا قاسيا بعد الحرب.
سَخَّرت دول أوروبا مواردها في الحرب العالمية الأولى وخرجت من الحرب منهكة؛ ففرنسا على سبيل المثال، فقدت عُشْر قوتها العاملة، ولم يجد كثير من الجنود العائدين في معظم أقطار أوروبا وظائف لهم. وبالإضافة إلى ذلك خسرت أوروبا كثيرًا من منتجات أسواقها عندما كانت تنتج مواد للحرب، ورغم ذلك خرجت الولايات المتحدة بقوة اقتصادية متزايدة.
النتائج السياسية. هزت الحرب العالمية الأولى دعائم حكومات كثيرة. وتصدت الحكومات الديمقراطية في بريطانيا وفرنسا لضغط الحرب، لكن أربع ملكيات سقطت، وكانت أول ملكية تسقط هي ملكية القيصر نيقولا الثاني في روسيا عام 1917م، وتخلى القيصر ولهلم الثاني في ألمانيا، والإمبراطور شارل من النمسا - المجر عن عرشيهما في سنة 1918م، وسقط السلطان العثماني محمد السادس في عام 1922م.
أدى سقوط الإمبراطوريات القديمة إلى إيجاد أقطار جديدة في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وتكون من أرض النمسا ـ المجر قبل الحرب جمهوريات النمسا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وأجزاء من إيطاليا، وبولندا ورومانيا ويوغوسلافيا. وتنازلت روسيا وألمانيا عن أراضٍ لبولندا وفنلندا، وحصلت دول البلطيق: أستونيا ولاتفيا ولتوانيا على استقلالها من روسيا، ووضعت معظم الأراضي العربية في الإمبراطورية العثمانية تحت سيطرة فرنسا وبريطانيا. وتكونت تركيا من باقي الإمبراطورية العثمانية، ووضع قادة أوروبا في حسابهم المجموعات القومية لإعادة رسم خريطة أوروبا، وبذلك رسخوا دواعي قضية القومية، وأعطت الحرب العالمية الأولى الشيوعية الفرصة لتولي السلطة في أوروبا، وتوقع بعض الناس أن تقوم ثورات شيوعية في أماكن أخرى في أوروبا، وقويت الحكومات الثورية بعد الحرب لكن لم تقم حكومات شيوعية.