مفهوم "الانتخابات الديمقراطية":
يحتل مفهوم "الانتخابات الديمقراطية"، عند كثير من الباحثين، موقع الصدارة في النظم الديمقراطية وذلك منذ أن عرّف جوزيف شومبيتر الديمقراطية على أنها مجموعة من الإجراءات والمؤسسات التي يستطيع الأفراد من خلالها المشاركة في عملية صنع القرارات السياسية عن طريق التنافس في انتخابات حرة.[5] وعلى الرغم من اهتمام الكثيرين بهذا المفهوم عند حديثهم عن الديمقراطية، إلا أنه لا يوجد، حتى اليوم، تعريف متفق عليه بين المهتمين بالانتخابات، أو مجموعة من المعايير القاطعة التي تُحدد معالم الانتخابات الحرة والنزيهة، كما لا يوجد منهجية واحدة يمكن من خلالها وضع مؤشرات محددة وشاملة للانتخابات الديمقراطية[6]
متطلبات الانتخابات الديمقراطية:
يكاد باحثو السياسة يُجمعون على أن جوهر نظام الحكم الديمقراطي هو تنظيم عملية اتخاذ القرارات وعمل مؤسسات الحكم من جهة، وتمكين المواطنين من المشاركة في عملية صنع القرارات السياسية من جهة ثانية، وتنظيم علاقة مؤسسات الحكم بالمواطنين من جهة ثالثة. وهذه الأمور الثلاثة هي ما يضمنه الإطار الدستوري لذلك النظام، أو ما يمكن تسميته "الدستور الديمقراطي"، الذي إن طُبقت نصوصه القانونية في الواقع، صار من اليسير وصف نظام الحكم بـ "النظام الديمقراطي"، بل وتسمية المواطن الذي يتمتع بالحقوق والحريات التي أقرها ذلك الإطار ويلتزم بالمسؤوليات والواجبات الملقاة على عاتقه بموجبه "المواطن الديمقراطي".
- مقاصد الانتخابات الديمقراطية:
استناداً إلى الإطار الدستوري الديمقراطي السابق الإشارة إليه، وإلى تجارب الديمقراطيات المعاصرة، فإنه يمكن القول أن الانتخابات التي تشهدها الديمقراطيات المعاصرة ليست هدفاً في حد ذاتها، وإنما هي آلية لتحقيق مقاصد أعلى.[13] ويرتبط بهذا ما يمكن تسميته "فعّالية" الانتخابات الديمقراطية، أي ما يترتب على الانتخابات من نتائج حقيقية ملموسة، أو ما تؤديه الانتخابات من وظائف فعلية في ضوء المقاصد التي من أجلها أجريت الانتخابات. ولعل أبرز مقاصد الانتخابات الديمقراطية ما يلي: (انظر الجدول رقم "1"، والذي يوضح قائمة مراجعة لمقاصد ووظائف الانتخابات الديمقراطية).
حرية" الانتخابات:
يعنى معيار "الحرية" احترام الحقوق والحريات السياسية الرئيسية كحرية الحركة، وحرية التعبير، وحرية الاجتماع، وحرية المشاركة في التصويت، وغيرها، والواردة في مجموعة من الوثائق والاتفاقات الدولية،[26] وعدد من الوثائق الإقليمية.[27] وهذه الحريات تتفق مع الأمور التي اعتبرها دال شروطاً مسبقة لما أسماه البولارشية. أي أن معيار "حرية" الانتخابات يُشكل، في نفس الوقت، أحد متطلبات الانتخابات الديمقراطية.[28] وفي تصورنا فإنه يمكن أن نضيف إلى تلك الحريات والحقوق بعديْن جديدين: الأول أن تُجرى الانتخابات في ظل حكم القانون، والثاني أن تتسم الانتخابات بالتنافسية. (انظر الجدول رقم "2" الذي يتضمن قائمة مراجعة لمعايير حرية انتخابات الديمقراطية).
احترام مبدأ حكم القانون: لعل أول وأبرز معايير حرية الانتخابات الديمقراطية في النظم الديمقراطية أن تلك الانتخابات لابد أن تحترم مبدأ حكم القانون"rule of law"، الذي يعني أن ممارسة السلطة بشكل شرعي لا يتم إلا من خلال خضوع القائمين عليها والمحكومين على قدم المساواة إلى قانون مسبق. إنه مبدأ سيادة القانون بدلاً من سيادة الملوك والأمراء، وطاعة القانون بدلاً من الامتثال لقرارات الأفراد. ويعد هذا المبدأ من أبرز السمات التي أظهرت صورة الدولة المعاصرة على غيرها من صور المجتمعات الإنسانية، وهو أداة لتفادي استبداد الحكام بالسلطة، ووسيلة لردع أي تدخل في حريات الأفراد من قبل السلطة.[
"نزاهة" الانتخابات:
يرتبط معيار "نزاهة" الانتخابات بعنصر الحياد "impartiality" الذي يجب أن تتسم به الجهة المشرفة على الانتخابات في تعاملها مع كل أطراف العملية الانتخابية من مرشحين وناخبين ومشرفين ومراقبين، وفي جميع مراحلها بدءاً من حق الاقتراع، ومروراً بكيفية تحويل أصوات الناخبين إلى مقاعد نيابية، وكيفية ممارسة هذا الحق، وانتهاءً بكل ما يتصل بالإشراف على الانتخابات وفرز الأصوات وإعلان النتائج. وترتبط نزاهة العملية الانتخابية أيضاً بمبدأ الدورية "periodical" والانتظام "regularity". ويعني الحياد المقصود هنا حياد القوانين والقواعد والأنظمة المنظمة لعملية الانتخابات، وكذا حياد الهيئة أو الإدارة المشرفة في تنفيذها لتلك القوانين والقواعد.[44] وفيما يلي أبرز معايير نزاهة الانتخابات الديمقراطية: (انظر الجدول رقم "3" الذي يتضمن قائمة مراجعة لمعايير نزاهة انتخابات الديمقراطية).
حق الاقتراع العام: ترتبط الانتخابات الديمقراطية التنافسية بحق الاقتراع العام "universal vote"، أي حق كل المواطنين البالغين المسجلين في الاقتراع في الانتخابات دونما تمييز على أساس اللون أو الأصل أو العرق أو المكانة الاجتماعية أو النوع أو اللغة أو الدين أو المذهب. ويرتبط بحق الاقتراع العام قاعدة "شخص واحد، صوت واحد أو one man, one vote"" بمعنى أن لكل ناخب صوت واحد، أو ما يسمى الوزن المتساوي للأصوات "equal weighting of votes". وحق الاقتراع العام وقاعدة أن لكل شخص صوت واحد يرتبطان بمبدأ رئيسي من مبادئ الديمقراطية ألا وهو المساواة السياسية الذي يعني تكافؤ الفرص أمام كل المواطنين في المشاركة في عملية صنع القرارات السياسية.[45
تسجيل الناخبين بشفافية وحياد: على الرغم من أن تسجيل الناخبين في سجلات انتخابية ليس شرطاً ضرورياً للانتخابات الديمقراطية، إلا أنه يعمل على تحقيق هدفين رئيسيين. فالتسجيل يُوفر آلية للنظر في المنازعات التي قد تُثار في شأن حق الفرد في التصويت، وذلك بشكل منتظم وقبل يوم الانتخابات ذاته. وهذا بالطبع يكتسب أهمية كبرى في الحالات التي يحاول شخص ما- لا يمتلك الحق في التصويت - أن يُدلي بصوته في الانتخابات، أو عندما يحاول شخص أن يمارس حقه مرتين. ومن ناحية أخرى فإن تسجيل أسماء الناخبين في سجلات انتخابية يُمكّن الهيئة المشرفة على إدارة الانتخابات من تنظيم أعمالها المتصلة بتحديد الدوائر الانتخابية وتوزيع القوة البشرية المشرفة على الدوائر المختلفة.[48
الحياد السياسي للقائمين على الانتخابات: ولعل من أبرز معايير نزاهة الانتخابات الديمقراطية حياد القائمين على إدارتها في جميع مراحلها بدءاً من الإشراف على عملية تسجيل الناخبين والمرشحين، ومروراً بإدارة يوم الانتخابات، وانتهاءً بعملية فرز الأصوات وإعلان نتائجها النهائية، والإشراف على حق الناخبين والمرشحين في الشكوى والتظلم أو الطعن.
دورية الانتخابات: وتعني سمة الدورية تطبيق القواعد والإجراءات الانتخابية ذاتها – والمحددة مسبقاً - على جميع الناخبين والمرشحين بشكل دوري "periodic" ومنتظم "regular" وغير متحيز لفئة أو جماعة معينة. ويستند هذا المبدأ إلى سمة رئيسية من سمات الديمقراطية وهي أن تقلد المناصب السياسية تُحدد زمنياً بفترات محددة، فالمسؤولون المنتخبون لا يُنتخبون مدى الحياة في الديمقراطيات المعاصرة، وكذا إلى قاعدة أن محاسبة الحكام ومساءلتهم تقتضي أن يتم الاحتكام إلى الناخبين بشكل دوري ومنتظم بغرض الوقوف على آرائهم في شأن السياسيين المنتخبين للمناصب السياسية والبرامج والسياسات المختلفة.